كشف الجيش الوطني الليبي، في 6 يوليو الجاري، أن عملية استهداف قاعدة الوطية الجوية الواقعة على مسافة 140 كم جنوب غرب طرابلس، والخاضعة لسيطرة ميليشيات الوفاق وتركيا، تمت عبر استهداف تسعة مواقع تركية في القاعدة، وأن نسبة تدمير التجهيزات بالقاعدة بلغت نحو 80% تقريبًا. ويُشكّل استهداف القاعدة تحولًا مهمًّا في تطورات الأزمة الليبية خلال المرحلة الأخيرة، خاصةً في ظل توقيت الاستهداف الذي جاء متزامنًا مع سعي تركي للتأكيد على النفوذ الكبير في ليبيا، وكذلك في ظل دقة القصف والخسائر الكبيرة الناجمة عنه.
دلالات مهمة:
جاء استهداف قاعدة الوطية الجوية ليعكس عددًا من الدلالات المهمة المرتبطة بتطورات الصراع الليبي، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- الانكشاف التركي الواضح: جاء قصف قاعدة الوطية ليعكس انكشافًا تركيًّا كبيرًا، خاصةً وأنه لم يخرج أي صاروخ من القاعدة تجاه المقاتلات التي نفذت العملية، والتي يُرجّح أن تكون من طراز "رافال"، وقد نجحت الضربة في استهداف منظومات الدفاع الجوي التركية "صونغور"، والرادارات الثابتة والمتحركة، ومنظومة "كورال" للتشويش الإلكتروني، والتي كانت وحدات الجيش التركي قد ثبتتها في القاعدة. ويمثل هذا القصف رسالة شديدة اللهجة لأنقرة بأنها مهددة، ليس فقط في حال تقدمها نحو سرت أو الجفرة وصولًا للهلال النفطي الليبي شرق البلاد، ولكن حتى في أماكن تمركزها في الغرب الليبي.
2- تطويق نفوذ أنقرة: أقرت تركيا بحدوث القصف، لكنها حاولت التقليل من الخسائر، حيث أكد مسؤول تركي بوزارة الدفاع، لم يُحدّد، في 6 يوليو الجاري، أن قصف القاعدة تسبب في تعطيل بعض الأنظمة بها، معتبرًا أن ذلك من شأنه أن يُعزز من حالة عدم الاستقرار، وهو ما تزامن مع إشارة مصادر محلية ليبية إلى مغادرة عدد كبير من القوات التركية من القاعدة، وهو ما يعكس أهمية القصف الذي أجبر أنقرة على التراجع، وبما يمثّل ردعًا كبيرًا للرغبة التركية في مواصلة التقدم باتجاه شرق ليبيا.
3- القدرة على تغيير التوازنات: جاءت الضربة العسكرية للقاعدة بعد يومين فقط من زيارة وزير الدفاع التركي "خلوصي آكار" إلى طرابلس، وهي زيارة استمرت يومين سعى فيها "آكار" إلى استعراض النفوذ التركي في ليبيا، كما أكد نية بلاده البقاء في ليبيا إلى الأبد، ومن شأن تلك الضربة أن تؤكد أن أنقرة لا تملك وحدها أوراق الضغط في ليبيا، وأن هناك قوى أخرى إقليمية ودولية قادرة على تغيير التوازنات في أي وقت بمعزلٍ عن تركيا. ولا شك أن الحديث عن استهداف جنود وقادة أتراك كبار إثر ذلك الهجوم يحمل رسائل مباشرة لتركيا بإمكانية رفع تكلفة الصراع، وأن التقدم الذي أحرزته أنقرة بدعم من الميليشيات والمرتزقة في غرب ليبيا خلال الشهرين الأخيرين لا يمكن أن يُكرّس لنفوذ تركي يتجاوز الفاعلين الإقليميين والدوليين.
4- صعوبة فرض سياسة الأمر الواقع: حيث إن محاولات أنقرة لشرعنة انخراطها المشبوه عبر استغلال حكومة الوفاق، لن يُفضي إلى فرض سياسة الأمر الواقع في ليبيا، خاصةً وأن زيارة وزير الدفاع التركي إلى طرابلس، في 3 يوليو الجاري، قد تضمنت اتفاقًا عسكريًّا جديدًا غير معلن. فيما أشارت مصادر مُطّلعة إلى أن الاتفاق نصّ على إنشاء قاعدة عسكرية تركية في ليبيا، إضافة إلى تأسيس قوة مسلحة تركية يتمتع جنودها وضباطها الأتراك بحصانة ضد أي ملاحقة قضائية. ووفق الاتفاقية نفسها، يُمنح الضباط الأتراك في ليبيا صفة دبلوماسية لضمان حصانتهم. فيما وصفت جهات ليبية الاتفاق الجديد بأنه احتلال واضح وعلني لليبيا. ووفق مصادر موالية لحكومة الوفاق فقد اتّفق وكيل وزارة الدفاع في حكومة الوفاق الوطني الليبية "صلاح النمروش" مع وزير الدفاع التركي على فتح مراكز تدريب لبناء جيش محترف ذي عقيدة لحماية الوطن والشعب، والحفاظ على مقدرات الدولة الليبية.
تداعيات متباينة:
تسير التطورات الأخيرة في ليبيا في عكس اتجاه ورغبة تركيا بشكل كبير، وقد مثّل استهداف قاعدة الوطية تكريسًا لذلك. ويمكن تناول أبرز التداعيات المرتبطة بذلك على النحو التالي:
1- التراجع التكتيكي: تدفع التطورات الأخيرة، خاصةً في ظل تكثيف الضغط عسكريًّا وكذلك سياسيًّا، إلى تفضيل أنقرة التراجع التكتيكي للحفاظ على مكتسباتها التي حققتها خلال الفترة الأخيرة. وتتمثل محدِّدات الضغط جنبًا إلى جنب مع استهداف قاعدة الوطية، في حدوث تحولات مهمة في مقاربة دول الجوار تجاه الأزمة الليبية، وهو ما تجلّى مع تصريحات الرئيس الجزائري "عبدالمجيد تبون"، في 4 يوليو الجاري، بأن حكومة الوفاق الليبية لم تعد تمثل الشعب الليبي، وشدد على أن "الأحداث تجاوزتها"، وهو نفس موقف الرئيس التونسي "قيس سعيد" أواخر يونيو الماضي، وهو ما يعكس فشلًا تركيًّا في اختراق تونس أو تحييد الجزائر تجاه مواقفهما من الأزمة الليبية.
كذلك فإن هناك ضغوطًا أمريكية أخيرة بضرورة تفكيك الميليشيات الموجودة في ليبيا، وهو ما عبّر عنه مسؤولون أمريكيون في مطلع يوليو الجاري، وهو ما يمكن أن يدفع باتجاه تعميق خلافات التحالف الميليشياوي الداعم لحكومة الوفاق وأنقرة. ومن جانب آخر، فإن هناك بعض المرتزقة الأجانب الذين تعتمد عليهم تركيا بشكل كبير قد انسحبوا من ليبيا خلال الفترة الأخيرة. إذ أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان، في 6 يوليو الجاري، إلى أن ما يقرب من 5250 مرتزقًا عادوا إلى سوريا، من أصل أكثر من 15 ألف مرتزق جندتهم تركيا للقتال إلى جانب الوفاق في ليبيا.
2- رفع مستويات التسليح: في ظل الانكشاف التركي في قاعدة الوطية، فإن المرحلة المقبلة سوف تشهد محاولات تركية حثيثة من أجل رفع مستويات التسليح لمناطق تمركزها أو مناطق وجود الميليشيات والمرتزقة الموالين لها عبر تدعيم منظومات الدفاع الجوي بشكل أساسي، إلا أن ذلك لن يكون سهلًا كما كان في السابق، خاصةً في ظل تصاعد الاهتمام الأوروبي بتفعيل مهمة "إيريني" البحرية لتفعيل حظر الأسلحة على ليبيا. وقد أعلنت إيطاليا، في 4 يوليو الجاري، المشاركة بفعالية في ذلك عبر توفير فرقاطة وطائرتين.
كذلك فإن تصاعد الهجوم الفرنسي على الدور التركي المشبوه في ليبيا يعزز الضغوط على قدرة أنقرة في خرق حظر توريد الأسلحة، خاصةً عقب إعلان باريس مطلع يوليو الجاري انسحابها مؤقتًا من عملية للأمن البحري لحلف شمال الأطلسي في المتوسط اعتراضًا على الممارسات التركية، فيما أوضح مسؤول في وزارة الدفاع الفرنسية أن بلاده تريد من الدول الحلفاء في الناتو "أن يعيدوا التأكيد رسميًّا على التزامهم" بحظر الأسلحة المفروض على ليبيا.
3- التلويح بالتصعيد: من المرجّح أن تستمر أنقرة في الخطاب التصعيدي من أجل الحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية خلال المرحلة المقبلة، دون أن يقترن ذلك برغبة تركية واقعية في التقدم العسكري باتجاه سرت أو الجفرة وصولًا إلى الهلال النفطي، إذ مثّل استهداف قاعدة الوطية رسالة لتركيا بضرورة الحذر من مغبة أي تقدم عسكري جديد، وهو ما يعكس استمرار امتلاك الجيش الوطني الليبي أوراق الضغط الأكثر أهمية في الصراع الليبي والمتمثلة بالسيطرة بشكل أساسي على الهلال النفطي الليبي الذي تتمنى أنقرة السيطرة عليه.
كذلك فإن أنقرة مُقْدِمَة على تحدٍّ خطير متعلق بإمكانية إدارة التناقضات والخلافات المتصاعدة بين مكونات التحالف الميليشياوي الداعم لها، خاصةً مع إعلان وزير داخلية الوفاق المقرب من أنقرة "فتحي باشاغا"، أواخر يونيو الماضي، تفكيك ما يسمى بقوة الأمن المركزي أبو سليم التي يترأسها "عبدالغني الككلي"، إذ يسعى "باشاغا" للتجاوب مع الضغوط الأمريكية عبر تفكيك بعض ميليشيات طرابلس، وهو ما ينذر بإمكانية دخول الميليشيات في مواجهات مسلحة ضد بعضها بعضًا في المرحلة المقبلة بما يُهدد النفوذ التركي في الغرب الليبي بشكل كبير.
وفي المجمل، فإن المكاسب العسكرية السريعة التي حققتها تركيا في غرب ليبيا خلال الفترة الأخيرة قد أدت إلى زيادة رغبة أنقرة في مزيد من الانخراط في الأزمة الليبية؛ إلا أن هناك معضلة حقيقية تواجه أنقرة تتمثل في عوائق الجغرافيا السياسية، إذ إن ليبيا ليست سوريا القريبة منها جغرافيًّا، ولذا فإن التمادي في توظيف الحلول العسكرية من أجل تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية في ليبيا لا يمثل سوى مزيد من التورط التركي في المستنقع الليبي، خاصةً وأن التوازنات الإقليمية والدولية مختلفة كليةً عن الوضع السوري، وبالتالي فإن الفشل التركي في حماية قاعدة الوطية هو جرس إنذار حقيقي لتركيا من أجل إعادة حساباتها من جديد في الأزمة الليبية.